كانت شجرة الكينا تظلل طفولتنا والجزء الغربي من الحارة بما في ذلك دكان أبو بديع ذو الباب الخشبي المدروز بمسامير ذو طبعات كبيرة سوداء .
يقال أنه فقد إبهامه تحت إحداها عندما كان شابا , حيث كان يحشر المسمارحتى آخره بلوح الخشب مستعملا إبهامه فقط وبضربة واحدة! .
ويقول آخرون و بالرغم من إقرارهم بحاكية المسمار، إلا أنه فقد إبهامه عندما ثارت بين يديه بندقية الصيد الألمانية، مؤكدين أن حشوة البارود تلك كانت كافية لأن تقتل ثورا كبيرا ، إلا أنها لم تأخذ من أبو بديع غير إبهامه !
إبهامه فقط .
كصبي من ذلك الحي لم يكن يعنيني كثيرا كيف فقد الرجل إصبعه .ما كان يعنيني ألا تلامس كفي الصغيرة تلك القطعة اللحمية الصلبة و المكورة كحجر مكان ذلك الابهام .
فأنا أعرف أنه إن حدث ذلك وبمجرد أن تتاح له الفرصة فلابد وأن يستبدل تلك الاصبع المقطوعة باحد أصابعي .
فكنت أضع ربع ليرة على طاولة الدكان وأنتظر حتى يضع بدل منها أربعة حبات بندق مغطاة بالشوكولاه ثم ُاخطفها وأركض كمن يسرق لا كمن يشتري ،ولا أتوقف حتى أتجاوز ظلال شجرة الكينا. عندها أعرف أنني اصبحت بعيدا بما يكفي لاشعر بالامان وأعرف أيضا أن أصابعي كاملة لم تنقص واحدا وما زالت تحتضن حبات البندق .
كان أبو بديع أحد أقدم سكان الحي، ويقال أنه من أطلق على الحي إسمه وهو ذات الإسم الذي إطلقه على دكانه “بقالية التضامن”.
وكعادة رجال الحي كان لابد له من القيلولة اليومية، وعندها تحل مكانه في الدكان زوجته <العمة>! لم تكن العمة تجيد القراءة والكتابة للتسجيل على دفتر الديون ،إلا آنها استخدمت أبجديتها الخاصة إذ كان لابد من التسجيل على ذلك الدفتر الذي لايمكن لدكان الإستغناء عنه ولا بأي شكل.
فكانت ترسم شكل السلعة وتشير بخط مستقيم إذا كان المدين ذكرا وبدائرة إذا كان المدين أنثى وكان حجم الدائرة أو الخط يحدد عمر المدين أما الشكل ومدى انتظامه فكان يحدد مدى وسامة وجاذبية الشخص المقصود.
فالدائرة المنتظمة متوسطة الحجم لابد أن تكون فتاة أو سيدة جميلة وكلما تراجع مستوى انتظام الدائرة فهذا يعني آن المشترية ذات حظ أقل من الجمال، وطبعا هذا مبني على معنى الجمال من وجهة نظرالعمة وحدها .
غالبا ما كانت العمة تضطر لأن تجر القلم فوق دفتر الديون عدة مرات ذهابا وإيابا لتشير إلي وأني إستدنت من عندها علبة متة أو كيلو سكر ،وذلك باشارة منها أني شديد السمار أو بمعنى أدق أسود كما كانت تقول ! نعم هذه كانت لغة العمة أم بديع.
كانت بقالية التضامن تبيع كل شيء بما في ذلك الضحك .
حينها لم يكن حي التضامن مثل ما هو حاله اليوم ، كان عبارة عن عدة بيوت متناثرة ومتداخلة ببساتين الشاغور . تلك البساتين التي طالما التهمت العديد من أطفال الحي لساعات طوال .فقد كان شائعا جدا أن يضل الاطفال الطريق لبيوتهم بعد ان يأخذهم اللعب ويبتعدوا داخل البساتين بمايكفي لان تضل القطط طريقها!
عندها يخرج أهالي الحي للبحث عنهم ! وقبل كل شيء وبهدف دعم عملية البحث كان لابد من إخبار أبو بديع باعتباره صاحب الإذاعة الوحيدة في الحي ،ليقوم بتكرا جملته الشهيرة ثلاث مرات متتالية “بسم الله الرحمن الرحيم ….يا أهالي حي التضامن “
من ثم يبلغ بنوع المشكلة فإما آن تكون نعوة أحد سكان الحي أو ولد ضايع ومن ثم يتوجب عليه تكرار اوصاف الطفل /عمره كذا لابس كذا وكذا/ …الخ
و كان احيانا يبلغ عن أطفال لم يفقدوا بعد، لانهم ببساطة ليسوا ضائعين .وهذه كانت خططنا نحن الشياطين الصغار للتسلية ، اللعب فقط هوماكان يدير عجلة الحياة بالنسبة لنا .
في إحدى المرات إقتدنا ولد من الحي لم يتجاوز الأربع سنوات وهددناه بأننا سنقلع جلده عن عظمه إذا قال بأنه ليس ضائعا ومن شدة خوف الطفل إختلط مخاطه بدموعه وكان يسير معنا مستسلما كأسير.
صعدنا نصرخ كلنا معا “عم بو بديع ..عم بو بديع .ولد ضايع …لقينا ولد ضايع “
كانت تلك أيام البطيخ والشمس تكاد تلامس الارض وقت الظهيرة، وكان أبو بديع يأخذ قيلولته أمام باب المضافة على صطح داره لحظة وصولنا .نظر إلينا نصف نائم ولم يمييز من منا هو الولد الضائع فلقد كنا كلنا متسخين ومعفرين بالتراب، وانوفنا تشر وننشقها مع كل نفس. كنا مثل الكلاب الشاردة لايمكن تمييز واحد عن الآخر .
فشغل الإذاعة وبدء بالمقدمة: بسم الله الرحمن الرحيم يا أهالي حي التضامن ولد ضايع ! وبدأنا نلقنه مواصفات الولد:
عمره أبع سنوات عمي /
عمره آربع سنوات.
.لابس بنطال أزرق عمي
/ لابس بنطال أزرق ..
وكنزة بيضا عمي
/وكنزة بيضا ….
بصفارين /
فردد أبو بديع كنزة بيضا بصفارين !!
وما أن أدرك المقلب حتى كنا نركض علي الدرج كالماء لايمكن الإحاطة بنا وكان صراخنا يخنق ضحكاتنا ويمتزح مع صوت ابو بديع الذي نسي بلحظة غضبه أن يطفىء الإذاعة ولم يبقى بقبضته إلا الطفل الذي يفترض أنه ضائع ..
وكنا نسمعه يقول الله يقصف عماركن… الله لا يكبكرن يا بلا مربـي …بدي اقلع جلدكن يا كلاب…
.ثم انتبه لوجود الصغير الذي كان مايزال مسمرا بمكانه. فصاح مندهشا:
“لك لك لك ولك هذا ابن ابني !!!!!
كنا نركض بأسرع ما يمكن، وحي التضامن يضحك بكل من فيه . حتى ان شبابيك البيوت التي صنعها سمير الحداد كانت تهتز من شدة الضحك.
يومها وبعد أن تجاوزنا ظلال الكينا كنا نسمع العم أبو بديع عبر إذاعته التي كانت ما تزال مفتوحة يضحك ملء صدره كما يليق برجل أطلق على الحي إسمه .
.كان يقهقه ويقول :
الله يبعثلكن أيام حلوة!