Skip to content

النهر

  • by

كما تختطف الريح الثياب عن حبال الغسيل ،اختطف النهر عائشة ،أو(عيشة) كما تناديها امها .لم يكن لبنت السنوات السبع غير المكتملة من مآثر تخلد اسمها. ولكن بكاء أمها الحارق الذي كان أشبه بالغناء وهي تدور بالحارات تناجي ضياع ابنتها ،علق بذاكرة السكان أكثر من حادثة الغرق نفسها. وأكثر آيضا من صوت أبو يحيى آذن المدرسة الابتدائية وهو يصرخ مفجوعا ذات صباح (لا حول ولا قوة إلا باللهلاحول ولا قوة إلا بالله…) ،عندما حاول إيقاظ الام التي قضت ليلتها الاخيرة بانتظار عودة عيشة على باب المدرسة وما إن لمس كتفها حتى اتقلبت على وجهها مثل رغيف خبز يابس . 

لم يتوقع أحد أن أبو يحيى بوجهه الأجرد كإبريق نحاس يحمل هذا الكم من العاطفة ،فقد كان يبكي ويتأوه كجريح .حتى أن البعض بدأ يعزيه. بالرغم من أن لاصلة تجمع الرجل بالمتوفاة قبل ذلك الصباح.

بشكل تلقائي منح السكان النهر وتلك الحارات التي عرفت خطوات الام آسم عيشة، وهكذا آصبحت المنطقة تدعى (نهر عيشة).

ـــ للشرق قليلا وبالتضامن تحديدا حمل ذات النهر إسم (قليط). بأربعة أحرف ساكنة مثل مياهه الراكدة التي أثقلها الصرف الصحي .

لم يكلف الاهالي أنفسهم عناء تحريك أي من الأحرف الأربعة .

نعم يلفظ الإسم (قليط) هكذا كشتيمة لاتحمل الحد الأدنى من اللباقة .وما كانت إضافة كلمة (نهر) قبل (قليط) إلا نوع من المجاملة المفتعلة ،و رد اعتبار لقليط ولجيرانه من السكان بآن معا .فأن تسكن بجانب قليط يبدو الأمر مهينا ،أما أن تسكن بجانب النهر وإن لم يتجاوز عرضه المترين فهو أمر آخر! 

ــــ كان النهر يرسم الحدود الفاصلة بين حذر الاهالي ومغامرات الصبيان.و كل تنبيهات وتهديدات الأمهات حول عدم الاقتراب من النهر تبدو كدعوة لايمكن مقاومة إغرئها للعب هناك تحديدا .فتذهب كل الأيامين التي تفننا بتغليظها لتشمل أعمار الآباء ورؤوس الأنبياء مع أول نسمة تحمل رائحة النهر العظيم! فننطلق نحوه بسيقاننا التي بدأ ينمو عليها وبرا خفيفا كنا شديدي الإعتزاز به. فهو دليل رجولتنا القادمة ،هناك يحث يصير التدخين ليس ممكنا فقط بل واجبا أيضا!.

هناك بدأت تنمو ذاكرتنا كالطحالب على حجر. زلقة لايمكن تحديدها بدقة ولايمكن تجاهل حضورها .أشياء صغيرة كبقايا السجائر التي كنا نجمعها من الطرقات لندخنها بحفلة اصطياد الحراذين والضفادع وتعذيب هذه الكاذنات الصغيرة ، أو بعد السباحة ببرك الماء المعدة لسقاية المواشي ببستان ابو صياح!

نخلع ملابسنا ونغطس بالماء بكلاسيننا فقط التي تفضح أكثر مما تستر بكثير ،فيبدو واحدنا عاريا مثل حبة قمح .

كان ( بشار) فخورا أكثر من سواه من الصبية بتلك الشعرات القليلة على ساقيه ،حتى وإن لعبنا بالحارة لايتردد أن يشمر بجامته الخضراء حتى الركبة لإظهار مدعاة فخره تلك. وكان بهذا العمر قد بدأ يرسم قلب حب ويكتب أول حرف من إسمه وأول حرف من إسم بنت الجيران بكل مكان. على عامود الكهرباء، على الحيطان ،على تنكات الزبالة .الخ.

بهذا العنفوان المراهق خرج من الماء مع بقية الصبية ليجد أن ملابسه كلها مسروقة ومكانها شحاطة بلاستيك تكبر مقاس قدمه بأربع أو خمسة مقاسات على الأقل. صار بشار أو (أبو العلاء) كما كان يلقب نفسه حينها يدور حول نفسع مثل ذلك الحرذون الذي وضعناه بعلبة سمنة فارغة ووضعناها على النار لنترى إن كان سيشوى أم يقلى.

صار يغص بدموعه ويندب ملابسه الضائعه ،وكان يعددها مضيفا صفاتها :

ياااا الله …..ياااا اللهL(ويمط الهاء طويلا..) خفافتي الصنينة البيضا إم خط أخضريا الله جديدة يا اللهثم ينشق.

يا الله بجامتي الخضرااا جديدة يالله جديدة.كنزتي يا الله إم رقم عشرة يا الله ..ماردونايالله مردونا ..وكأنه فقد مرادونا نفسه!

بالرغم أن الكل كان يعرف أن فقط حذائه كان جديدا أما البيجاما فلم تكن كذلك وكنزته تحمل رقم سبعة وليس رقم عشرة !فرقم عشرة كان يرتديها عادة معتز(احد صبيان الحارة) وليس بشار .ولكنه كان مصرا أن يخلط أمنياته بمفقوداته!.

أقنع نفسه بأن يتظاهر بممارسة (رياضة الجري) ولابد أن الجميع سيقتنعون بذلك ..فالأميركان نعم الأميركان يركضون بالشوارع لابسسين شورتات فقط وهم رجال فماذا إذا ركض بالكلسون وهو مازال صبيا؟!!

نعم كان عليه أن يقنع نفسه أنه مازال صبيا بعد أن كان من ساعة فقط يقنع الجميع بأنه رجل بعلامة الشعرات على ساقيه ، وأن لديه حبيبة بدليل قلب الحب المرسوم على عامود الكهربا !

هكذا أخذ قراره ،مسح دموعه ونشق نشقة قوية و ابتلعها وبدأ بالهرولة.

في البداية لم يكن الأمر صعبا إلا من حيث الاحتفاظ بالشحاطة البلاستيك بقدميه،فكان المكان خاليا تماما من الناس. ولكن ما إن بدأ يقترب من الحارات ويتجاوز البيوت واحدا بعد الآخر حتى بدأ الموضوع يصبح أكثر تعقيدا كلما اصطدم بعيون الجيران وتعليقاتهم الساخرة الذين خمنوا أو علموا من أولادهم ما حدث بالتفصيل!

كان يحاول الإسراع والشحاطة كانت تعيقه ،وهو مصر على الاحتفاظ بها لسبب ما. ربما إعتبرها نوع من التعويض!

صلى كثيرا أن لايراه أحد، وخاصة بنت الجيران التي كان يسميها (الحبوبة) وأن لاتكون واقفة على باب بيتها كالعادة. حقيقة استجاب الله لهذا الجزء من صلاته فقط. وفعلا لم تكن تقف على الباب .وصل للبيت وانطلق للداخل مثل قط هارب . ليجد نفسه محاطا بمعظم نساء الحارة بمن فيهم أم الحب وقد أحضرت إبنتها الحب معها .وكن جميعا بزيارة (الجمعية) التي كان الدور يومها بمنزلنا .

لم يتفاجئن النسوة به كما تفاجئ بهن .فالاطفال قد أخبروا أمهاتهن بما حصل وكان الكل بانتظاره .حتى أن بعظهن قد جهزوا تعليقات لاتخلوا من الطرافة والسخرية بآن معا!

فتسأله إحداهن بسرعة (ليش جايب كلسونك معك يا خالتي ؟) وتجيبها أخرى🙁شو عليه يا عميالواحد بينسى آحيانا .!!!).وليس هناك آي علاقة للنسيان بما حدث ..ـ

و تغمزثالثة ( اسم الله آسم الله صار شب) …

ثم تستهجن إحداهن ضاحكة (يا بركة اللهطيب ليش هيك)؟؟ وطبعا لايمكن لاحد فهم لمن السؤال أو إذا كان سؤالا آصلا!!

ولكن آكثر ما آلمه حينها هو ضحكة (الحبوبة )التي لم تحاول إخفائها ..

في وسط هذا المهرجان لم يعرف أن يتوجه إلا إلى الطريق الوحيد المفتوح أمامه أو هكذا خيل له، فصعد الدرج إلى السطح وحشر نفسه خلف برميل المياه ، ليجد أن قلب الحب ذاته ونفس الحرفين كانا بانتظاره! لايمكن لنا نسيان ماحدث ،واليوم بعد مرور سنوات كثيرة جدا ما زال بشار يضحك كل ما آشترى كلاسين ويحرص أن تكون بوكسرات من النوع الغالي .ويقول ( الواحد ما بيعرف شو بصير معه)!

 هكذا تبدو ذكريات النهر عصية على النسيان حتى بعد أن غادرنا النهر . فبعد أشهر قليلة آتت سيارات شحن كبيرة وأفرغ تلالا من الرمل الابيض وكمية كبيرة جدا من الانابيب التي يمكن لرجل أن يقف بداخلها، فشكلت هذه الجغرافيا المستحدثة، مساحات لعب جديدة لنا وابتكرنا العابا تناسب طبيعة المكان الجديد.

أتى عمال كثر يرتدون ثياب المحافظة بالياتهم الكبيرة، وبدأوا يحشرون الانابيب بمجرى النهر ثم يقلبون عليه الرمل الابيض لترصه المحادل فيما بعد ..

وكانوا كلما وضعوا أنبوبا جديدا تقلص النهر وانكمش وكان يبدو كما لو أنه يعاني للخروج من تلك الانانبيب. فتتراقص مياهه ببطئ كدموع في عين غريب ما تلبث أن تنفلت منه .

فجأة أدركنا نحن الصغار أن النهر لم يعد موجودا. فقط درب من الرمال يحل مكانه وقفنا مشدوهين فاغري الافواه معفرين بنفس الرمل الذي دفن فيهـ النهرـ مقبرة أسرارنا ـ لاضفادع بعد اليوم ولا حراذينليس هناك نهر بعد اليوم ..نظرنا لوجوه بعضنا.بعيون محشوة بالخيبة ،فلقد إختطفوا النهر أمام آعيننا     كما تختطف الريح الثياب عن حبال الغسيل 

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *