سليم
كان سليم أحد مجاذيب الحي, الذين لم يكونوا كثر، ولكن سليم كان استثناء، فهو غير مؤذ إطلاقا.لا أحد يعرف عنه الكثير، فهو تقريبا لا يجيد الكلام، لا يلقي التحية على أحد، لا يطلب شيء من أحد، يأخذ ما يعطى له ( سندويشة لبنة، خصلة عنب، تفاحة، كاسة شاي …الخ) ليذهب إلى فمه مباشرة، يقضمه ببطء، ويتابع سيره بذات الايقاع البطيء.
وحين يصيبه التعب يجلس مادا ساقيه أمامه، مسندا ظهره على جدار بالظل، يتأمل اللاشيء.
نعم سليم لا ينظر لشيء محدد، فهو يرى الناس، الاشجار، القطط الشاردة، السيارات كلها متماثلة. يراها بوصفها أشياء. أشياء فقط، لا تحمل له أي معنى.
حتى الطعام بالنسبة لسليم هوطعام، فليس هناك ما يحبه أو يكرهه أكثر من شيء آخر.
كنا نحن الصبية نحاول ـ بغفلة من أهاليناـ أن نضايقه، لنرى أي ردة فعل يبديها. نمشي خلفه ننكشه، بعصى، نركله، نرميه بالحجارة. فكان يصدر أصواتا خافتة، همهمة غير مفهومة تنم عن الشكوى، الشكوى وليس الغضب. فسليم لايعرف الغضب.
كم أنه لا يعرف الفصول، يتصرف وكأنها لاتمر به أوعليه. نفس القميص الازرق والبنطال الاسود المشدود على خصره بخيط غليظ، وسحاب البنطال مفتوح دائما.
كان يحدث أن ينقطع الخيط، فيصبح لدى سليم مهمة جديدة، هي رفع بنطاله كل متر، لا لشيء الا لأن البنطال الساحل يعيقه في المشي، ويببقى يحاول رفعه إلا أن يأتي أحد من الجوار ليعيد ربط الخيط من جديد. لم يتعلم أن يربط الخيط بنفسه طيلة حياته. فسليم لايعرف كيف يربط الخيط.
أحيانا يتغيب عن مروره بالحارة يوم أو يومين، ليعود بعدها مقصوص الشعر وملابسه أقل إتساخا. نعم هناك من يعتني به بين الحين والاخر.
رغم قصر قامته ونحالة جسده كان له شارب كث وغليظ، جرب أحد شباب الحارة مرة التندر بذلك.
# بتعرف ولو سليم: يا ضيعان هالشوارب فيك!
ولم يكمل ضحكته التي تلت الجملة تلك حتى لجمه صوت أبو زياد:
عيب عمي، عيب وحرام. الله يعافينا.
فرد رجل آخر: الله يحسن آخرتنا.
وثالث مؤيدا لأصوات الرجال قبله: الله يثبت علينا العقل والدين. الله يعين العالم عمي. فاضطر الشاب أن ينادي سليم: تع يا سليم تعال، واضطر أن يلحق به بضع خطوات، لأن سليم لا يرجع للوراء أبدا، ليضع بيده (ليرة) ويكرر مع الرجال بعد أن أصابه الحرج: الله يعين العالم!
لم يبالي سليم بما حدث والليرة التي حصل عليها كتعويض عن إهانه لم تصله أسقطها بعد بضع خطوات، فسليم لا يأخذ النقود، سليم لا يعرف النقود، يحتفظ بيده ما يمكن أكله فقط.
كا ن لعابه يسيل مثل خيط مطاطي لا ينقطع ليصل إلى بطنه. ويصبح عدد الخيوط المطاطية أكثر إذا ماكان مصابا بالرشح، كان يمسح بكمه انفه عندما يعيق ذاك الخيط تنفسه فقط، ويتابع سيره بذات اللامبالة وكأنه ينش ذبابة لاتعنيه.
بظهيرة أحد أيام الصيف حيث الحارات فارغة إلا منا نحن الاولاد نلعب غير آبهين بشمس الظهيرة، نتقافز مثل الجنادب، نركض خلف كراتنا الزجاجية ( الدحاحل ).
نصرخ بانتصار وتحدي، وتعلو أصواتنا (جورة…..جورة…أول ،ثاني …بيش..)
وإذ بسليم يجلس مادا ساقيه ومسندا ظهره لجدار أحد البيوت يستمني.
نعم بهذه البساطة فضح سليم العادة السرية. فهي ليست سرية بالنسبة له. فسليم لايعرف الاسرار.
في البداية بحلق الاولاد بداية الامر مشدوهين، نظروا بدهشة عالم وجد ظالته! تضاحكنا سرا ثم ساد صمت من نوع ما يشوبه الخوف، فلم يسبق لاحد منا أن صادف هذا من قبل!
كنا آصغر من نخوض التجربة وأكبر من ألا نعيها.
استمر هذا الشعور للحظة. قبل آن ننطلق لنتقافز من باب لباب ومن نافذة لاخرى للنادي باقي الصبية الذين لم يكونوا معنا ساعتها، فلا يجب أن يفوت المشهد أحدا.
حتى أثارصراخنا فضول الامهات اللواتي أسرعن لإغلاق النوافذ حرصا على ألا ترى بناتهن ما يدور بالخارج. ورغم حرجهن، لم يستطعن إخفاء ضحكاتهن المخنوقة. التي ظهرت من خلال بعض الدعاوي: يه يه يه، الله لا يهون عليك ياسليم.
الرجال أيضا ارتبكوا وتراكضوا جاهلين بداية مايجب فعله تحديدا. جرب بعضهم ايقاف سليم بركلة من قدمه، والبعض جرب نكشه بعصا عن بعد وبخوف، كمن يحاول إخراج قطة من مكان ضيق، إلا أن سليم لم يكترث لكل هذا المهرجان من حوله، اكتفى ببضع أصوات خرجت من فمه لا تنتمي للغة التي نعرفها، ولكنها جلية المعنى.
حاولوا أن يلقوا عليه بطانية عسكرية إلا أنه رفض أن يمسه شيء أو أحد، فرمى بيده الثانية البطانية وتابع ما كان يشغله.
فاضطر الرجال أن يحملوا عددا من الشراشف والاغطية ليتحلقوا حوله مرتجلين خيمة بانتظار أن يفرغ السلطان سليم (كما تندر أحدهم) مما هو فيه.
دفع سليم بعدها خارج الحارة، وأصبح مروره أقل من قبل، وأصبح الاهالي وخاصة النساء والاولاد أكثر حذرا وتحفظا بالتعامل معه. وبذلك قلت سندويشات اللبن وخصل العنب التي كان يحصل عليها، لكنها لم تنقطع. فبقي الرجال يعطوها لسليم بين الحين والآخر، بأيد فيها من القسوة أكثر ما فيها من الشفقة.
بقدرما أثار الحادث استياء الاهالي، بقدرما أثار رغبتهم بنسيانه وطيه باعتباره من الماضي، ربما ليدفنوا معه حرجهم مما لا يد لهم فيه. ساعد على ذلك شائعة قوية ظهرت تلك الأيام، أن هناك انتخابات سيشارك بها الجميع. مشت الشائعة وأخذ (الجميع) يهتم بتفاصيل الشأن العام، وكان اليساريون أشد حماسة من غيرهم. فأخذوا يكتبون العرائض ويدورون بها على السكان بدوريات كل واحدة مؤلفة من شخصين، ليقنعوا الأهالي بالتوقيع عليها.
هذه عريضة لردم النهر يقول الاول. ويردف الثاني من الدورية نفسها: على الاقل يسقفوه يا أخي أكلنا الذبان!
وتلك عريضة نظافة: لازم يمر عامل النظافة مرتين بالنهار. ليتابع الثاني : معلوم مرة وحدة مش عبتكفي، طمرتنا الزبالة!
وعريضة أخرى لغلاء الاسعار:التجار عبيلعبوا بالاسعار (والتجار هنا هم بضع بقاليات متناثرة بين الحارات). ليضيف الثاني: وبيلعبوا بالميزان كمان، لا ذمة ولا ضمير! يلعب بعمارهن!
وتوالت العرائض والاهتمام بالتفاصيل لتطال سليم. نعم صار سليم وقتها جزء من إهتمامات اليسار. فقالوا: لو كان سليم غنيا لما دار بالشوارع مثل كلب شارد، يجب أن يكون هناك بيوت لرعاية من هم بمثل حالته. ليصبح سليم مثالا للطبقة المسحوقة والمغلوب على إمرها. وهنا تحدثوا عن الطبقية ودور الفقراء بإدارة عجلة التاريخ، وعن دور (البروليتاريا).
طعبا لم يكن من السهل على معظم السكان لفظ الكلمة، فاصبحت البلوريتاريا أو البررويرتاريا تدور مع كاسات المتة وتشارك النساء ساعات الصباح خاصتهن، وبعض المحظوظات منهمن، ظهرت لهن البلووريتاريا على شكل( رزقة) بالفنجان.أو على شكل ( طاقة فرج). والعزبات منهن كانت تظهر لهن دائما على شكل غزال. (يكون حرام آذا هالحكي صحيح).
على الجانب الآخر من التنافس الانتخابي كان يقف رجال الدين (ممثلين اليمين) الذين لم يكونوا ليفوتوا مثل هذه الفرصة. فكان لهم عرائضهم آيضا.
فهذه عريضة لبناء جامع وتلك لتشييد سبيل على روح الشيخ فلان و أخرى لجمعية خيرية يعود ريعها للمحتاجين. (ومن محتاج أكثر من سليم؟)
فلم يكن لهم آن يتركوا سليم من حصة اليسار، بل اضافوا عليه أن سليم هو أحد الدراويش الذي بعثه الله لننعم ببركته. ولم يكن الله ليبعث هذه الروح المبروكة لو خلى المكان من الصالحين (وكان تتبع الصالحين إشارة لمرشحهم). وبالغ بعض المتدينين الجدد بالتقرب من سليم، ولم تمنع رائحة بوله بثيابه ولا حتى خيط اللعاب الممتد لبطنه من التمسح به طالبين بركته. وهكذا سار اليمين بجانب اليسار حاملين عرائضهم وكتف بكتف للمرة الاولى وكتجربة أولى بحي التضامن.
لم تدم القصة طويلا، فبعد أن ذهب الطرفان لتقديم عرائضهم للمحافظة، تبين أن الموضوع شائعة، ونالوا ما نالوه من توبيخ وقتها من السيد المحافظ، (ولو ما طلع ابن حلال كانوا راحوا بسين وجيم على حد تعبيره). ولكن ذلك لم يمنع أن احتفظ كلا الطرفين بعرائضهم منتظرين فرصة أخرى لتقديمها.
ومع تراجع اهتماماتهم بالشأن العام تراجع اتهمامهم بسليم بوصفه قضية آيضا، وتابع سليم بدوره مروره بالحارات كما كان قبل أن يفضح العادة السرية.
عندما مات سليم دفن بمقبرة تخص عائلته. بدون شاهدة، وبدون مراسم تشييع، ولم يصلى ولم يغسل فهو مجنون و ليس عليه تكليف(كما قال المشايخ).
دفن هكذا كما هو مثل شهيد. رغم أن سليم لا يعرف معنى أن تكون شهيدا.
سليم لا يعرف اليسار ولا البلوريتاريا. سليم لا يعرف الغضب، ولايعرف كيف يربط خيطا. سليم لايعرف الاسرار ولا عاداتها، سليم لا يعرف اليمين، اليمين من تسمحوا به طالبين بركاته، رغم أن سليم لا يعطي بركته لأحد.
سليم يأخذ فقط ما يعطى له ليقضمه ببطئ ويسير ببطء ويتأمل اللاشيء.